بين أوتار أربعة خلق تاريخ الأغنية اليمنية


     

ـ تحقيق صحفي ـ عبير محسن ـ منتدى الحداثة والتنوير الثقافي 

 

أحضر مع الناس بجسمي والفؤاد غايب

واجاوب القول بالخاطئ وبالصايب

وأبسم إذا رن شادي نغمة  الطارب

يا رب باكي ولكن بالضحك راوي

 

للجمال سطوة تغلب حالة الإنسان وبيئته ولغته، بل وكل لغات العالم، وعُرف الفن بأنه لغة الشعوب .. لكن الشغف بالرنة الطروبة ، والنغمة مميزة العمق، لم تسلب – فحسب- قلب القاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي عندما شدى بالأبيات السابقة في وصف  ابتسامته التي تنبثق من وسط حزنه ، إذا ما رنَّتْ نغمة “الطارب” آلة “القنبوس” ، إنما أرغمت أيضاً الأمريكي “فيليب” – باحث أمريكي الأصل – للإذعان لسحرها  والمثول لها .. ومن هنا كانت البداية، سيرة آلة كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة وتعلن انتحارًا فنيًا لولا إنصاف القدر الذي لم يرَ  في موتها عدالة .

 

 

                  ــ ” القنبوس ” يدق الناقوس

 

ألا جِس نبض الوتر يا سمير  …*…  وقم لاعب العيدان

وغني بذكر الغزال الغرير  …*…  كحيل الرنا الوسنان

وشنف ليَ الكأس واذا المدير …*… وزفه على الندمان(1)

وأنصت وخلِّ اللواحظ تشير  …*… فشا تفضح الألحان

 

لم تكن رقة صوت “الأخفش” وكلماته فقط السبب في طلاوة ما سمع “فيليب” بل تلك الآلة، “الجندي المجهول بالنسبة له” ، والتي توارت خلف الفنان قاسم الأخفش (الذي لم يكن يسمح لأحد بالجلوس قربه سوى القنبوس ) ، وقلة من الفناين الذين وفوا لها، مثل الفنان سعد عبدالله الكوكباني، ومحمد العطاب (الأعور)، حسن الرخمي ، حسن الجماعي، حسن العجمي، أحمد  الكوكباني، علي أبوبكر باشراحيل ، وحديثاً المهندس أحمد الطشي ، الطربي تصغيرًا لكلمة (طرب) ، حيث كانت تسمى بهذا الاسم في صنعاء، وتدعى في حضرموت بـ”القنبوس”، وتعرف – عامة – بالعود اليمني ، حيث كانت نشأتها الأولى، ومن ثم انتشرت من عدن إلى مدغشقر، وجزر القمر، وإندونيسيا، وماليزيا وغيرها.

شحنتْ رنات “القنبوس ” فضول “فيليب” لمعرفة تلك الآلة، التي تكمن وراء هذه الألحان، التي صاحبت غناء “الأخفش” سحرًا، والذي يعد من أمهر الفنانين الذين أجادوا العزف عليها ، بدا متلهفًاً حين كان يسأل عنها، وذات صدفة أعادت لنا شيئًا من وحي الفن القديم ، الذي لازال مستمرًا، إلا أنه مسلوب من  نغم ” القنبوس ” ، حينما وصل إلى فؤاد القديمي، الذي كان يعمل في صناعة الآلات الموسيقية، كالعود، والكمان، والجيتار، وتذكر أثناء حديثه أنه سبق وأن رأى ” القنبوس ” في بيت جده كتحفة من مقتنيات المنزل، وعلم بعدها باهتمام الأولين بها، رغم تحريم الغناء والفن  آنذاك.. يقول فؤاد أنه بعدها وجد طربيًا قديمًا منزوع الأجزاء في شاحنة جاره , كان الطربي أو ” القنبوس ” على وشك الرقود الأخير مع تلك الأخشاب التي تستعد للحرق كحطب ، و لم يتوانَ فؤاد حتى أغرى جاره الشاب بـ (أورج ياماها) مقابل تلك القطعة التي لم تكن تعني له شيئًا سوى قطعة حطب .. أعاد فؤاد ترميمها وأهداها لفيليب، وصارت منذ تلك اللحظة معشوقته ، وهو صانعها وحابكها الوحيد، رغم عدم رضى أهله عن حرفته هذه ، ومحاربتهم إياه ، إذ يرونها انتقاصًا من شأنهم ومكانتهم أمام الناس.

 

 

ويعرف ” القنبوس ” شكلًا بقطعة خشب واحدة ذات عنق طويل، مصنوعة من شجرة الطنب ،  تشبه في شكلها رِجل الإنسان (ساقه مع فخذه) ، يتم نحتها بالتدريج للوصول إلى  درجة معينة من الرقة، وتغطى جزئياً بلوحة  تندمج مع الملمس،  بينما يُغطى الجزء الآخر بجلد غنم رقيق تم دبغه وتجهيزه لهذه الآلة خصوصا ، مما يعطيه نغمًا أكثر عضوية وغنى في التناغم من  صوت العود الشرقي ، وتشد عليها أربعة أوتار تصنع من بطون الماعز، لها  أسماء مختلفة ، حسب رنة النغمة التي تصدرها (اليتيم، الرخيم، الأوسط  ، الحازق) ، وهي التي صاحبت الغناء في اليمن على مدى 500 سنة، والتي ساعدت في الحفاظ على الأغنية الصنعانية ، تحديدًا التي تعرف بالشعر الحميني، حيث خلقت خصوصية للأغنية اليمنية، عرفت بالموشحات، وساهم صغر حجم الآلة وسهولة طيها، على عبور هذا الزخم الثقافي بسلام عبر زمن كان يوأد فيه أي شيء يمت للغناء والفن  بصلة.. !

يُذكر أن لبعض الطربيات أو آلات ” القنبوس ” – خاصة القديمة – مرآة توضع أعلى عنقها، وسط المفاتيح، وحسب الرواية ؛ أنها كانت تساعد المترنمين في  عزفها برؤية القادم من خلفهم، حتى إذا ما أتى أحد رجال الأئمة (العسكر) يسارع الحاضرون في تنبيه العازف، الذي يكون قد غادر بمشاعره وخياله إلى عالم لا يسعفه فيه ملاحظة وجود أحد،  فيقوم بطي ” القنبوس ” وإخفائه في كُم عباءته، أو بين ملابسه، ويتصرفون كأنهم في جلسة ذكر وتسبيح عادية تخلو من ممنوعاتهم !

 

 

             ـ في صراع الأعواد 

 

 

اختلفتْ الآراء حول سبب خفوت واندثار ” القنبوس “، وقلة استخدامه من قبل الفنانين، حيث صرح الباحث “نزار غانم” من قبل، على أن ” القنبوس ” حال دون تطور الموسيقى اليمنية، وأعزى ذلك الى أن المدى الصوتي للطربي، بأوتاره الأربعة، لا يسمح بعزف كل المقامات كالعود الشرقي الذي ظهر في مطلع القرن العشرين، وبدأ استخدامه في عدن خلال ثلاثينيات القرن العشرين ، ومن هناك انتشر  إلى باقي المحافظات .

 

 

إلا أن الأستاذ جابر علي الفنان والباحث الذي له مؤلفات عديدة حول الفن اليمني ، فند نظرية غانم مستفتحا حديثه بأنه ليس مع مصطلح الطربي بتاتاً  لأن مصطلح الطربي يعد حديث نسبياً ، إذ أنه ظهر على ما يبدو في النصف الأول من  القرن العشرين ، فيما الشواهد التاريخية تؤكد بأن الشاعر والفنان يحيى عمر  أستخدم مصطلح  ” القنبوس ” في القرن السادس عشر ، حيث كان يلقب بـ (المقنبس) كونه لم يكن يغني  إلا بصحبتها .. مضيفاً إنه أثناء الغزو العثماني لليمن كانت آلة  ” القنبوس ” هي الأفضل للأداء إلى جانب الصحن ،) الومياء والمرواس ) الذي ظل  الفنانون محافظين على هذا الملمح حتى دخول العود الشرقي إلى عدن  ، والتي كانت تعد بمثابة بوابة اليمن إلى الخارج ، حيث سار الفنانون نحو الجديد  ليس لأفضليته  ، بل لذهولهم بما هو جديد  ، أما القول بأن مساحة الطربي محدودة فهو قول يجافي  حقيقة هذه الآلة التي اُستخدمتْ لمصاحبة أغان تقليدية تصل مساحتها إلى ديوانيين كما في  موشح طرب سوجه ، ويتم ذلك من خلال  تغيير ” البوزشين ” وضع اليد على رقبة الآلة ، بدليل أن هناك أغان كثيرة غنيت بمصاحبة الطربي أولاً ، ومن بعد ذلك  غنيت بمصاحبة العود مثل “موشح ” الغويدي” و “أشكو  من البين ” وغيرها الكثير , وأشار إلى أن الجمود أو التطور  في الموسيقى اليمنية عموماً ليس له علاقة مباشرة بالطربي وإنما بفلسفة المجتمع المنظمة  للحياة وبالتقاليد الإبداعية المنتشرة  في الوسط الثقافي.

والنتيجة أنه إذا كان في المعمورة شعب أضاع تاريخه وفنه، فلن نجد منافسًا يباري اليمنيين في هذا النجاح، وربما كان هذا السبب في سكون الغبار على سطح الطربي أو ” القنبوس “،  وليس هناك سببًا آخر حتماً..

 

 

 

 

             ـ رد  اعتبار ..

 

بدا كالبدرِ تُوِّجَ بالثريا

غزالٌ في الحمى باهي المحيَّا

 

رماني باللحاظ فصرتُ ميتا

وحيّا بالسلام فعدتُ حيّا

 

معتد بخفة أصابعه التي تراقص أوتار ” القنبوس ” بتقنية عالية ..  هائم  في أغنية  “بدا كالبدر” ، وكأنه صوفي شارف لحظة التوحد .. “جان لامبير” الباحث الفرنسي الذي أقترن اسمه بـ “القنبوس “، وعُرِفَ بولعه في التراث الفني الصنعاني، الذي اعتلى عرشه ” القنبوس ” بلا منازع ، كان  “لامبير” ممن حاربوا لأجل إحياء ” القنبوس “، مع المركز الثقافي، بإدارة رفيق العكوري ، الذي أكد على سعيهم في انتشال ” القنبوس ” من بئر النسيان، وإعادة إحياء الموشحات الصنعانية، التي لا تحلو إلا به، وأضاف : إن إحدى هذه المساعي كانت التنسيق لدورة تدريبية لتعليم حرفية صنع الآلة ، التي لم يعد هناك من يجيدها سوى “فؤاد القديمي”، حتى لا تندثر وتختفي بعده ، ومن جهة أخرى تعليم أساسيات العزف عليها .. وساهم “لامبير” في الحصول على منحة مقدمة من اليونسكو، لدعم هذا المشروع، حيث تم  الاتفاق على شراء بعض الآلات التي تقلل من جهد ووقت القديمي أثناء صناعة آلات ” القنبوس “، فلا يعود عمل يدوي بحت، وبالتالي تقل تكلفته التي كانت ب 1300$، إلى ما يتراوح ما بين 800 إلى 300$، حسب نوع الطربي وحجمه ..

 

 

لم يرَ هذا المشروع النور، برأي فؤاد القديمي، الذي كان معنيًا بنقل خبراته في العزف والصناعة كمدرب خلال هذا المشروع، وقال : إن  غياب متدربين فعليين يرى فيهم موهبة ورغبة للتعلم، سواء من حيث صناعة هذه الآلة أو العزف عليها، كان  من أبرز الأسباب التي أعاقت الدورة التدريبية.. بينما كان للعكوري رأي آخر، يلقي فيه اللوم على وزارة الثقافة، التي أفشلت المشروع لأسباب شخصية من وجهة نظره ، مفضلاً عدم الإفصاح عنها ..

بالرجوع إلى فترة اقتراح وتنفيذ المشروع، كان الأستاذ خالد الرويشان وزيراً للثقافة حينها، وعن حقيقة الاتهامات التي بدت موجهة لوزارته – آنذاك- اكتفى بالقول : إنه “لا أساس لهذه الادعاءات من الصحة، بل بالعكس من ذلك، فقد كانت هناك جهودًا حثيثة لإحياء هذه الآلة، وإعادتها إلى حيز الفن العصري، بدليل أن الفنان الكبير نجيب سعيد ثابت، مدير عام الفنون ووكيل الوزارة لاحقًا أنشأ – شخصيًا – فرقة ” القنبوس “، وأقام حفلات متعددة بـ ” القنبوس ”  .. ثم إنني لم أستمر في الوزارة سوى ثلاث سنوات ونيف ” ..  ولم يوضح أكثر عما يخص مشروع المركز الثقافي المدعوم من اليونسكو .. وجدير بالذكر أن ” القنبوس ” أدخل من ضمن روائع التراث العالمي وكان لللثنائي “العكوري ولامبير” يد  في هذا الانجاز.

 

                ـ تتعدد الأعذار والخذلان واحد

 

حاول فؤاد القديمي ، أكثر من مرة، الحصول على درجة وظيفية، تحفظ له حقه ومكانته، كونه الصانع الوحيد ” للقنبوس  “، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، وبلا أسباب مقنعة، يتدثر جميع المعنيين بسيل من الأعذار الواهية، ومع ذلك – وحفاظًا على تراثنا- يؤكد فؤاد على احتفاظه بأدق تفاصيل صناعة ” القنبوس ” ، الذي يحتاج عناية شديدة، وشغف أشد في الصنع ، في دفتر له، يضيف عليه كل ما يطرأ لتحسين بعض الأجزاء، أو لتغيير بعض قياسات الآلة، التي لم يعد يصنعها إلا عند الطلب، للتكلفة العالية  للأدوات المستخدمة في صناعتها، والتي لا  يقوى عليها، إلى جانب الجهد والعناية الكبيرين والوقت الطويل الذي تستغرقه ..

وعن فرقة (للقنبوس) كان يعتزم رفيق العكوري على تشكيلها، مكونة من عازفين وعازفات على آلتي الجيتار والعود الشرقي، تحت إشراف المركز الثقافي، الذي بات محرومًا من أقل التكاليف التي تقع على عاتق وزارة الثقافة، وبلا أسباب واضحة سوى الحرب، السبب ذاته  – أيضاً – كان وراء  تشتت أفراد الفرقة إلى خارج اليمن ، قبل تجمعهم هرباً من بطش هذه الحرب ..

 

                        ــ نبتة  أمل …

 

 

لا يعرف المرء قيمة ما بيده – عادةً – مهما كان ثمينًا، لذلك تستحوذ هذه الآلة على انتباه الأجانب أكثر من اليمنيين، لتفردها بالشكل والصوت.. هكذا قال أحمد الطشي، المهندس المعماري، وهاوي العزف على ” القنبوس ” ، حتى اقترب من الاحتراف .. ويبدو “الطشي” شغوفًا بالتراث اليمني، الذي صار واضحًا من خلال مقطوعاته التي يسجلها على قناته في موقع “يوتيوب” رغم تخوفه في بادئ الأمر من عدم إجادتها، وهروبه نحو أغانٍ بسيطةٍ، كأغاني فيروز ، وشهد له “القديمي” الذي علمه العزف عليها ، بمهارته وسرعة تعلمه الضرب بذكاء على أوتارها ..

انتقلت عدوى عشق ” القنبوس ” للطشي، عن طريق جان لامبير ،الذي كان صديقًا مقربًا له ، وعلى يده – ربما – ينبت أمل ، وتنتقل العدوى منه – أيضًا – إلى فنان آخر، كآفةٍ لذيذة، فتعود لهذه الآلة روحها، وتعود اليمن كما عرفناها – دومًا – مهد الأصالة والفن ..

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قد تكون (وزفه على العيدان) حسب ديوان الشاعر ” وادي الدور”

 

حول الموقع

البيت اليمني للموسيقى والفنون منظمة مجتمع مدني تُعنى بالموسيقى والفنون.